خلفية البحث
تعرض الكثير من المفكرين والنقاد لماهية الفن ووظائفه والتفريق بينه وبين الفنون الإستعمالية من جهة أخرى، موضحين فى ذلك مقومات ومعايير العمل الفنى فى كل من المجالين، من الناحية التشكيلية، وما تحتويه من مضامين، مكتفين بما توصلوا إليه من نتائج شارحة لأهداف كل من المجالين.
فمثلاً نرى أحكام على الأعمال الفنية (نحت ـ تصوير ـ جرافيك) أو على أعمال لها صفات الأعمال الفنية الإستعمالية، والتصميم الصناعى، مثل تصميم الملصقات وغيرها ، والتى هى واقعة بين “الشئ الجميل” و”الشئ البغيض”، ونتسأل: هل هذة الأحكام أحكام واقعية وصحيحة؟ و ماهو رأى نظرية الجمال فى ذلك؟
فى هذا الإطار نجد الإستاطيقى الكبير “رومان إنجاردن Roman Ingarden” فى منتصف القرن الماضى مثلة فى ذلك السيميوطيقى “چان موكاروفسكى Jan Mukaruvsky” والذى ينتمى إلى نفس الفترة الزمنية والمدرسة التشيكية، قد إتجها إتجاهاً معاكساً فى العلاقة بين الفن والتصميم، طارحين السؤال عن الفن من خلال عملية قراءة أو معايشة للعمل الفنى. فنرى “إنجاردن” قد إهتم بالمتلقى وكيفية إدراكة للعمل الفنى، موضحاً الخطوات التى يمر بها من بداية “الرؤية” وحتى إصدار “الحكم الإستاطيقى”، متعرضاً لطبيعة العمل الفنى ذاته وما يحوية من سمات ومايخرج عنه من أنماط ذو مصطلحات وتعريفات.
أما “چان موكاروفسكى”، نجدة مهتماً بإعطاء العمل الفنى “عامة” صفة “العلامة الفنية”، مستعرضاً ظروف نشأتها بهدف الوقوف على مضامينها وأنواعها كعلامة مستقلة تختلف فى نظامها ووظائفها عن بقية العلامات الأخرى وخاصة المرتبطة بالأنظمة الإجتماعية.
وفى ذلك نجد منهجية ونظم علمية مثيرة ، وحلقة وصل تتلخص فى تسليط الضؤ على كل من الفنان والمتلقى وكيفية إستقبالة للعمل الفنى فى إطار تعريفة “بالعلامة الفنية” .
والبحث يطرح عدة تساؤلات عن خطوات عملية المعايشة الإستاطيقية للعمل الفنى: هل يلعب الفكر أم الخيال أو الشعور الدور الأكبر فى المتلقى؟ أم تتواجد وتتواصل تلك المناطق مع بعضها البعض فى صورة حلقات متتالية ، تبدأ من منطقة الخيال وتنتهى بمنطقة العقل؟ متعرضاً بذلك إلى منهجية رومان إنجاردن فيما يخص مراحل المعايشة لدى المتلقى وأراء السيميوطيقى چان موكاروفسكى فى تعريفة للعلامة الفنية؟ وكذلك مستعيناً بكتابات وديجراميات الأستاذ س. مازر فيما يخص الحدود والإختلافات بين المنهجين ، وبأراء كل من رودلف أرنهايم عن التأثير الإجتماعى للفن.
وينقسم البحث إلى جزئيين أساسيين موضحاً فى 2) للأرضية التى يتقابل فيها الوعى الجماعى مع الفردى أثناء المعايشة، منتقلاً فى 2.1 وحتى 2.2.6) لخطوات المعايشة الإستاطيقية على ضؤ كتابات “إنجاردن”، واقفاً فى الجزء 3) على مفهوم العمل الفنى كعلامة مستقلة، غير خاضعة للتحليل السميوطيقى لنظم علامات أخرى عند موكاروفسكى، مستنتجاً فى 3.1) و 3.2) لمفهوم العلامة الفنية عند كلاً من موكاروفسكى وانجاردن.
2) المعايشة الإستاطيقية:
2.1) خلفيات الناتج الفنى:
يقول إريش كيستنار Erich Kaestner ” إن الإستاطيقين غرباء الأطوار. فهم يحبون الفن والنظام فى أن واحد ، ولذلك فهم يبحثون عن النظام فى الفن ، …… ، وهم عندما ننظر إليهم كإناس متعصبين للنظام ، ذلك لأننا نريد تفهمهم وتفهم دورهم كمتحذلقين أو تربويين فقط. ، غير مدركين للأسرار الكامنة فى كنه الأعمال الفنية كنظام ، وهذا يعنى لديهم :
إن كل من يخلق نظاما ، فهو خلاق !”
هذة المقولة التى تعكس ما تستعرضة فى هذا البحث من أفكار ، حيث نتعرض لتفصليات من الممكن أن يصفها البعض بعدم الأهمية أو بحذلقة “إستاطيقية”، وفى قول كل من شوبنهاور بآن “الحكمة” لا تستطيع أن تتواجد إلا من خلال خبرات معرفية مكتسبة قائمة على توليفة من العقلانية والعاطفية، وبدون “الرؤية المفكرة” كما نعتها أرنهايم ، وهى تقوم على النظام، رداً يصعب علينا بدونه تفهم العمل الفنى.
كما يصعب علينا أيضاً أن نتصور أن يرقص الراقص أو يرسم المصور أو يكتب الأديب أو الشاعر أو ينحت النحات قطعة أو يشكل الخزاف آنية بغير تواجد “فكر وحس” يتحركا داخلة وبشكل مستمر ، دافعاً كل منهما بالأخر فى شكل عشوائى. فهم جميعاً يفكرون ويتخيلون بأشكال متفاوتة النظم والأساليب والأهداف ، يتحكم فيها منظومة روح العصر بما فيها من نظم الوسيط الفنى وتقنياته. فأى عصر فنى نراة مليئ بأفكار تميزة عن غيرة من العصور الأخرى، ظاهرا لنا أوجة الإختلاف فى تطور نظم اللغات البصرية أو السمعية أو كليهما معاً كما هو الحال مع الأعمال المركبة والفن المفاهيمى، فجميعهم خلاصة للمعايير التكنولوچية والثقافية المعاصرة والمرساة من قبل علماء وتربويين وفنانين.
فنرى الناتج الفنى كاشفاً لنا “بصورة عامة” عن حدود وشروط المنظومة الثقافية ، فهى التى تصبغ على “العمل الشئ” صفة “العمل الفنى” وتعطية الشرعية للتواجد داخل المتاحف وقاعات العرض ، وهى المحرك الديناميكى للمعايير الإستاطيقية والعنصر المؤثر على الرؤية الجمالية للفنان والمتلقى. وينشأ الناتج الفنى بعد توافر شرطين:
الأول: جمع الخبرات (فكرى/عقلانى ، حسى/عاطفى)
والثانى: معايشة واستيعاب (إجتماعى/ذاتى) للشريطة الأولى.
ويتفق العديد من العلماء والمفكريين على أهمية الفصل بين الشرطين. فنرى الإستاطيقى “رومان إنجاردن” فاصلاً بين “جمع الخبرات” ، والتى يغلب عليها الصفة الجماعية ، والتى يدركها الفرد من خلال النظم التربوية وغيرها ، وبين “معايشة الفرد” ، والتى يغلب عليها الصفة الذاتية ، وهى تتمثل فى تكوين وجهه نظر شخصىة تجاة الأشياء. (قارن: R. Arnheim, p. 148). (أنظر لوحه رقم 1).
كذلك “چان موكاروفسكى”، قد نظر إلى هذين الشرطين كنظامين يتداخلان مع عناصر أخرى سياسية وإجتماعية فى تكوين دائرة إتصالية ، غير قابلة للفصل مكونة “لعلامة مستقلة” قائمة بذاتها. والعملية الإتصالية عنده لاتكتمل إلا بوجود مردود لعملية “المعايشة” فى الوعى الجماعى.فلو إنحصر دورها فى شكل معايشات فردية ، تصبح حبيسة داخل الإنسان ويصعب تواجدها بشكل مؤثر تعليمى ، ثقافى ، أخلاقى ، فى مجتمع ما ، بل من الممكن أن يصدر عنها أحكام خاطئة.
فالمعايشة على المستوى الفردى، كفنانين أو متلقيين، تحركنا بغرض الوصول إلى لذة حسية أو إلى إعطاء حكم إستاطيقى ملئ بكم من المفردات والخصوصيات، مؤثرة فيما بعد على المعايير الجمالية / الجماعية ،
ولا نعنى بذلك تساوى حقيقة “المعايشة الإستاطيقية” مع “حقيقة” المعرفة الإستاطيقية السابقة أو مع “حقيقة” الشئ ذاتة، هذا لأن حقيقة “المعايشة الإستاطيقية” تذهب بنا فى كل مرة يرى فيها عمل فنى إلى بناء موقف ذاتى جديد تجاه “العمل الشيئ”، والذى من المفترض بآنه سوف يكتسب قيماً أخرى تجعل منه “عملاً إستاطيقىاً” مختلف عن أعمال أخرى. فالمعايشة تضيف خصوصية “إفتراضية مستحدثة” لكل عمل على حدة فى حين “حقيقة الرؤية المسبقة” تتمثل فى الخبرات المكتسبة التى تدفع بالمتلقى بالتحضير للمعايشة ورؤية الجديد ، وتقوم أثناء أدائها بدور “المعادل” أو المضبط الزمنى.
2.2) مراحل المعايشة الإستاطيقية عند رومان إنجاردن:
إن “المعايشة” بمعناها المعجمى تعنى التقبل الحسى لموقف ما، والذى من الممكن أن يتحول إلى مرحلة الإنغماس أو الإندماج مع الموقف أو الحدث (سلبا أو إيجاباً). وعند ربطها بمصطلح “الإستاطيقية = الجمالية” نعنى بها الخطوات الديناميكىة “الخلاقة”، الهادفة إلى تكوين “متخيل جمالى”، والذى يطلق “الحكم” على “العمل الشئ” ويصبغة بصفة “الفنى”.
وهى تقوم على مدى الكيفية التى تتواصل بها العناصر الداخلية للإنسان: “الفكر” و “الشعور” و “الخيال” و”القدرة على إسترجاع المعلومة المختزنة”. فأى قرار أو فعل أو رد فعل نقوم به ، تارة يغلب علية العقلانية وتارة الخيال والأحاسيس والشعور وتارة أخيرة تركيبة جامعة بينهم، ولكن بنسب متفاوتة. فتظهر المعايشة الإستاطيقية فى صورة “كم نوعى” من المعايشات الصغيرة والمتعاقبة زمنياً، والمليئة بالإنفعالات المتشابكة داخل نفس المتلقى، بادئة بحالة الإثارة ، الباحثة عن كنهة “العمل الشئ”، ماراً بمراحل التعرف والإدراك والإستمتاع ، ومنتهية بمراحل تتسم بالهدؤ. نصفها بالتقييم الأولى الخلاق للمدرك الإستاطيقى.
2.2.1) مرحلة الحس الأولى (الإثارة):
تبدأ المعايشة “بالإثارة الحادثة” لدى المتلقى ، فى صورة أولية حسية ، نابعة من “الشكل” ، الذى قد يمثل “حقيقة” جديدة متخيلة ذو قيمة خاصة ، تشعره بدفء أولى. وهذة الخطوة لايمكن لنا وصفها “بالإعجاب” الحادث من التساؤل حول “المكون المرئى”، والذى له تآثير ولو بسيط ، ولكنه مختلف ومتوازى مع تآثير “الإثارة الحادثة” على مراحل تسجيل الأوليات الحسية. فالإعجاب قد يحدث من خلال التساؤل عن خصوصية “النوعية المثارة” والتى تتكون فى بادىء الأمر فى صورة مجردة لا نستطيع الإمساك بكيفيتها أو كنهتها.
“…… كل معايشة إستاطيقية “كاملة النمو” voll entwickelte ästhetische Erlebnis” تمتد على مراحل متنوعة تتم على أحسن الأحوال – بعد توافر “الرغبة العامرة”. متضافرة بها رغبات مختلفة، دافعة بالمتلقى إلى الدخول إلى حاله الإمساك بالشىء الإستاطيقى وتكوين محددات له. وهذة المرحلة تتضمن أنواع من المعايشات الصغيرة”. (قارن: R. Ingarden, p. 3)
2.2.2) مرحلة التوجة:
وتذهب بنا الأوليات الحسية إلى مرحلة “التوجة” إلى “النوعية المثارة” ، والتى نتساءل خلالها عن “الكيف المثار”، ونجد أنفسنا منجذبين بمشاعرنا إلى كنهه ومركزية “النوعية المثارة”، فى محاولة منا لإستيعاب “الشىء المرئى” ، غير مهتمين للصفات المتعددة، والتى قد تكتسبها تلك “النوعية” فيما بعد ، وبذلك تدفعنا مشاعرنا بعاطفة خاصة إلى تغيير المفاهيم الأساسية لدىنا ، والتى تظهر من خلال محاولة “تحويل” الأحداث من “بديهيات” عملية إلى “خصوصيات” إستاطيقية. فقوة المنع المتوالدة من خلال تواجد الأولويات الحسية تقلص حدود المفاهيم الطبيعية المكتسبة من الإقتناع بوجودية ورموز العالم الواقعى وخواصة وآلياته.
ونجد رغباتنا تتوجه من منظور “النوع الخالص” الناشىء من التخيل، بمعنى رفض للحقائق وطرح أسئلة عن ماذا؟ وكيف؟ تارة عن تلك النوعية التخيلية وتارة عن ماذا وكيف نستطيع منعه أو ردعه من الحقائق؟ وكيف نستطيع تبديلها بمعايشة إستاطيقية؟ وأخيرا على أى مدى نستطيع الدخول الى كنه الموضوع “الإدراك الاستاطيقى”؟، والذى يحدث على حد قول إنجاردن عن طريق:
“أنه يظهر آثناء المراحل العادية للمعايشات صورة “المنع” أو “العزل” ـ لو صح التعبير ـ ، من قبل المتلقى لأشياء العالم الواقع، فـ “المدرك الواعى” يرفض بشكل كامل هذا الواقع حتى يتيح الفرصة للدخول إلى مراحل المعايشة. أما فى حاله توالد أحاسيس أولية ضعيفة، تظهر حالة رفض للمعايشة، نستطيع وصفها بظاهرة “الرجوع” ، وهى محاولة العقل للتقييم ووضع الحكم عن طريق أليات الواقع ، دون اللجؤ إلى أليات الحس.” (قارن: R. Ingarden, p. 4)
“عند توالد الأوليات الإستاطيقية الحسية بصورة قوية تبدأ الذاتية فى إضعاف ما حدث من معايشات سابقة لأعمال فنية أخرى، محاولة بذلك “محو” الرغبات العملية والوظيفية للمتلقى. هادفة إلى بناء مرحلة طبيعية للمعايشة تفوق قدرة “الكم” المتواجد فى الحياة اليومية بإستبدالة بمعلومات “حسية/خيالية”، تضاف إلى رصيد المتلقى فيما بعد.” ( قارن المرجع السابق: نفس الصفحة)
2.2.3) مرحلة الرؤية الإدراكية:
إن الرؤية الإدراكية هى الإمساك بالأشياء عن طريق الفكر الحسى (قارن: Duden, p. 457). فنجد فى هذة المرحلة إستمرارية فى بناء “شئ إستاطيقى جديد” ومحيط شمولى (Gestalt) ، بإدراك حسى عالى التركيز ، نابع من “الأوليات الحسية” ، ومليئ بالحركة والحياة ، مبدلاً فى صدر المجال المرئى ، معطيات “الشئ” البسيطة التشكيلية إلى معطيات “موضوع الشئ” ، رافعاً من قيمتها إلى درجة الخصوصية والفردية، وظاهراً بصورة مبدئية للحقيقة العارية “للنوعية المثارة”، على خطوات لإخراج نفسها من حالة المحايدة التى يعيشها المتلقى حتى الأن ، ويتساءل “إنجاردن”:
“هل أخذت تلك “النوعية” صورة من صور “الأوتونومية” التى لا تحتاج الى “تعريف نوعى إضافى”؟ إذا كانت الإجابة بنعم، سوف تصل عملية البناء الإستاطيقى بنا إلى حالة التجمد!. وهذا يعنى أننا بصدد شىء إستاطيقى بسيط وآولى. أما إذا كانت الإجابة بالنفى، بمعنى أن تلك “النوعية” هى جزء من “كل” غير مُدرك بعد، تتصاعد درجة المعايشة الإستاطيقية إلى مرحلة جديدة مشحونة وصاخبة ومليئة مرة أخرى بالحركة وهى مرحلة (البحث المتشدد والصاخب عن إيجاد توصيف للنوعيات الجديدة المكتشفة).” (قارن: R. Ingarden, p. 5)
2.2.4) المرحلة التكميلية:
فى هذة المرحلة الإستاطيقية البنائية والإدراكية يظهر لنا شكلين للنوعيات المستحدثة: (أ) فى صورة بنائيات تقيسيمة “تبعاً لأهمية العناصر”. (ب) فى صورة البناء المتناغم النوعى “البولوفونى”.
“بالأضافة لــ (أ) إن “النوعيات المدركة المرئية” سوف تآخذ من خلال هذا المفهوم للتقسيم البنائى أشكالاً تتدرج على حسب أهميتها فى حدود إمكانيات “الشىء المتخيل”، الذى هو الآن “ممتلىء بصفات مكتسبة” والتي تخرجنا إلى مضمار جديد وهو إصباغ صفه “الحقيقة” على “الشىء المتخيل”. ذو النوعيات الإستاطيقية الجديدة ، والتى من جانب تتولى دور أخذ القرار بالنسبه إلى بناء “الشىء المتخيل/الموجود” ، ومن جانب أخر تعطى ثراء لجميع الصفات التى إكتسبها العمل. وهذا “الشئ الإستاطيقى” سوف يدركة المتعايش بعد ذلك ككيان مستقل يتواصل معه عاطفياً فى علاقة شخصية حميمة مع مكوناته ومفراداته الواقعية المرئية (وبالأخص الأشكال الأدمية الظاهرة فى العمل الفنى).” (قارن: R. Ingarden, p. 5)
وبالإضافة إلى (ب) البناء المتناغم النوعى “البولوفونى” يرى إنجاردن أن النوعيات العديدة تظهر للمتلقى فى صورة “نظام متكامل” وليس فى صور نوعيات متوازية. وهى كالأتى:
“1) كل نوعية تحول نفسها إلى النوعيات التى سبقتها، 2) حالة البناء تُفقد كل نوعية خصوصياتها لتصبح جزأً من “كلاً نوعياً” ، 3) النوعيات المتضافرة بين بعضها البعض تدفعنا إلى رؤية متكاملة لنوعية واحدة “جشتالت”، 4) تحت النوعيات القوية من الممكن تكوين “بناء تخيلى” ليس له تأثير على (الكل).” (قارن: R. Ingarden, p. 5)
2.2.5) مرحلتى الإستمتاع والإدراك المستحدث:
إن “الإدراك للنوعيات الأولية” تتوالد معه فى بعض الأحيان ، أسئلة ملحه عن كنهه تلك “النوعية” أو عن إذا كان هناك نوعيات أخرى لم تسجل فى مراحل سابقة. والمسبب الحقيقى لذلك هو دخول المتلقى إلى مرحلة الإستمتاع ، والتى ينسج الإدراك المستحدث نفسه معها ، ليأخذة إلى الرجوع إلى مرحلة التوجة مرة أخرى ، للتأكد منها وإضافة إلى الرصيد الإدراكى للنوعيات المثارة.
فيبحث المتلقى الآن إما عن جماليات العمل الفنى (حالة عامة) أو عن المتخيل المرئى الجديد المتوالد من علاقتة ونوعية معايشتة للعمل الفنى. ففى الحالة الأولى تنشىء حالة ننعتها “بالإجابة الاستاطيقية التقيمية السلبية”، والتى يكتشف أثناءها تفككا بين النوعيات الناشئة الأولية والتى قد أخذت (قيمة ما) متناغمة وبين ما نتج عن بحثه. والحالة الثانية تظهر عند اكتشاف مزيج جامع بين النوعيات المثارة وتداخل بينها، وهذا ينشئ على أسس متقدمة من الخبرة فى رؤية ومعايشة الأعمال الفنية وإستيعابها، وتساعد فى تكوين المدرك الإستاطيقى النهائى.
2.2.6) مرحلة التقييم وإعطاء الحكم:
وهنا تنتهى المراحل الديناميكة والإنفعالية، والتى كانت تهتم بالبحث والتمحيص ، ويدخل المتعايش إلى المرحلة النهائية الهادئة، وبقوة متوازية مع الاستمتاع والإدراك. فهى مرحلة تتصف بالحزم وعدم المحايدة، هذا لإمتلاءها بكم “تخيلى” إستاطيقى، يحتاج إلى إجابة تقيمية، والتى يطلق بها الحكم بصورة ايجابية ، تعطى قيمة “للعمل الشئ” ، وتحوله الى “الشىء الإستاطيقى”.
ومما سبق ذكرة نرى أن مراحل المعايشة الإستاطيقية تمتد على مرحلتين أساسيتين: مرحلة أولى مليئة بالإنفعالية باحثة عن عناصر الجمال، ومحاولة بالإمساك بخواص “نوعيات مثارة” بسيطة ومعقدة ، هادفة لوضع تصور مبدئى للعمل، ومرحلة ثانية تتصف بالهدؤ والتقييم لنتائج المرحلة الأولى، فيغلب عليها النظام الهادف إلى الوقوف على كنهه الشىء الإستاطيقى ، وملخص المرحلتين هو كالأتى:
المرحلة الأولى: الكم الظاهر من النوعيات المثارة والتداخل بينها (إثارة وبحث)
1 مرحلة الحس الأولى (الإثارة) ـ كل “نوعية مثارة” تبدأ فى التداخل مع بعضها البعض.
2 مرحلة التوجة ـ ينتج عن التداخل بين النوعيات المثارة تشابك فى العلاقات ، غير مفصول الأجزاء ، يُفقد “النوعية المثارة” الواحدة صفة الشخصية الفردية الخالصة.
3 مرحلة الرؤية الإدراكية ـ ينتج عن التشابك نوعية جديدة ذو بنائية متكاملة “Gestalt”.
4 المرحلة التكميلية ـ هذة النوعية المكتسبة الجديدة تخرج فى صورة “تخيلية” جامعة “لكل” النوعيات المثارة.
5 مرحلة الإستمتاع ـ الخلق الديناميكى عن طريق الإدراك الواعى لبناء الشىء الإستاطيقى وتعريفةعلى أنه وحدة بنائية / نوعية.
6 مرحلة الإدراك المستحدث ـ الرجوع مرة أخرى من مرحلة الإستمتاع إلى مرحلة التوجة للتأكد من المدرك البنائى.
المرحلة الثانية: الوحدة البنائية للمعايشة الإستاطيقية (من الإثارة إلى الهدؤ والإدراك الواعى وأعطاء القيمة):
7 مرحلة التقييم ـ إيجابية يتواجد بها المدرك المرئى للتطورات المكتسبة التخيلية الجديدة، واصف العمل الشئ بأنه “عمل إستاطيقى”.
3) العلامة الفنية تساوى علامة مستقلة:
مما سبق ذكرة من مراحل المعايشة، نستخلص أن هناك عناصر ثلاث أساسية: المتلقى والشئ المرئى وموضوع الشئ ، ومضاف إليها عنصراً أخر وهو الخصوصية الميتا ـ تخيلية المستحدثة، والذى يظهر فى حالات المعايشة المتقدمة. و ما أرساة بيرس Peirce من علاقة الشئ “الميتا ـ تخيلى” بأوجة العلامة الثلاث (ش ، م ، ح)، نجدة هام كأرضية معرفية متمثلة فى البرجماتية والسمنتكية والسنتكتية والذين يكونون نظرية الإدراك، التى عن طريقها نستطيع التحليل، مستعنين فى ذلك بعنصر درجة الأيقنة Iconizitaetsgrad، والذى أكد علية مولز Moles فى كتاباتة. (قارن: مازر Maser, 1992, p. 83 -،1966, p. 61)
فعند الربط بين مجالى الإستاطيقا والسيميوطيقا، من خلال “العلامة الفنية” ، نبدء فى إعطاء الرموز إلى ” الشئ المرئى” بـ “ش” ، وإلى “الموضوع” بـ” م”، وإلى “الخصوصية الميتا ـ تخيلية المستحدثة” بـ “مَ”، و إلى “حالة المتلقى” بـ “ح”، والذين يمثلون علامة “عملية المعايشة الإستاطيقية” عند رومان إنجاردن الجامعة بين ش + م + مَ + ح) (أنظر شكل 1) .
والعلاقة هنا بين عناصر العلامة هى تصاعدية ، بادئة من تجاوب حادث بين (ح) حالة المتلقى وبين (ش) الشئ المرئى ، منتقلة إلى درجة أعلى وهى تعرف (ح) على (م) الموضوع عن طريق الرجوع إلى (1) فيزيقة الشئ (ش)، (2) وعن طريق التساؤل عن كنهه الموضوع وبشكل حسى مباشر ، والذى يذهب بالمتلقى إلى أعلى الدرجات وهى بناء شئ “ميتا ـ تخيلى” (مَ). وهنا تتفق المنهجية الإستاطيقية عند إنجاردن مع:
1 ـ نظرية بناء العلامة “الإنعكاس” لچورچ كلاوس G. Klaus . فى أن الشئ الميتا ـ تخيلى هو نتاج من الشئ المتخيل البسيط المدرك من الشكل (ش) ومن ماتوصل إلية المتلقى من ميتا ـ متخيل مُركب (مََ)، أخذاً شكل عنصر جديد ننعتة بالعلامة الجانبية الدالة Sigmatic إن صح التعبير.
فموضوع الشئ (م) بأشكالة المختلفة (الرمز والأيقونة والمؤشر) فى العلامة الفنية مختلف مع الموضوع المتخيل أو الميتا ـ متخيل من قبل المتلقى (مَ)، فأننا لانستطيع تقليص العمل الفنى إلى وصفه “بالعمل الشئ” الناشئ من خلال العلاقة بين الشئ (ش) والموضوع (م) ،
2 ـ فكرة العلامة المستقلة عند چان موكاروفسكى التى توضح أن العمل الفنى هو العلاقة بين (ش / مَ)، والتى نعتها سوسير “بالدال” الذى يقابلة “معنى” فى الوعى الجماعى متمثل فى “الموضوع الجمالى” ، والذى : “لايمكن مساواته …… بأى من الحالات النفسية التى يثيرها فى الذوات المدركة له ، …… ، فمن المؤكد أن كل حالة من حالات الوعى الذاتى تتميز بقدر من الذاتية والآنية تجعلها صعبة التلمس ومستحيلة التوصيل فى كليتها ؛ ……” (أنظر: سيزا قاسم ، ص 286).
ونجد فى ذلك إتفاق على أن “العمل الفنى” لايوازى “العمل ـ الشئ” (وهو لايماثل “الشئ المرئى” الذى سبق ذكرة ص 6) ،لأنه سوف يُفقدة قيمة إستاطيقية وتوصيلية مضافة قد يكتسبها من خلال الشئ الميتا ـ متخيل (مَ)، وربما لهذا السبب قد حيد موكاروفسكى دورها من دائرة “العمل الشئ” واضعاً إياها داخل منظومة العلامة المستقلة ككل بقولة: ” …… غير أن “الشئ” الذى يمثل العمل الفنى فى عالم المحسوسات يظل قائماً. …. والعلامة ـ…..ـ هى حقيقة محسوسة ترتبط بحقيقة أخرى يُفترض أنها توحى بها ” (أنظر: المرجع السابق ، 286-287).
ويصل البحث هنا فى نهايته إلى مايلى:
3.1) مفهوم العلامة الفنية عند موكاروفسكى:
إنه قلما مانجد مفكر دائم الفصل ثم الجمع بين عنصريين متضاديين (الفردية والجماعية) فى إطار سمطقة الفن مثلما فعل موكاروفسكى. فهو يذهب إلى الفصل بين وظائف العمل الفنى كوظائف إستاطيقية وكوظائف أخرى منها الإجتماعية والسياسية، واضعاً حالة من الديناميكية بين ماهو معترف به كفن وبين ماهو خارج عن نطاقة ، بشكل يسمح لأى حدث أو شئ فى أن يصبح „حامل“ لوظائف إستاطيقية،
وهذا التصور ناشئ عن فصلة الدائم لكنهه الشئ الإستاطيقى إلى جزئين ؛ الجزء الأول يتمثل فى قوة الموضوع أو مدى تأثير الوظائف الإستاطيقية علية؛ والجزء الثانى يعتمد على خلفيات الرؤية الإستاطيقية لهما.
فهو عندما يضع المعيار الجماعى كمعادل للوظائف الإستاطيقية ، بصورة من الممكن أن يفهم منها تحجيم للتسلط الذاتى ، إنما يريد أن يؤكد على واجبات الوظائف الإستاطيقية داخل المنظومة الإجتماعية ، والتى بها يصف „الطاقة الإستاطيقية“ بالبارزة من حيث قدرة العمل على لفت النظر وإظهار ذاتية ذو طابع خاص، تذهب بنا إلى الإعجاب، منوهاً لأهمية „الشكل“ الذى هو إحدى العناصر الهامة للوظيفة الإستاطيقية، وهذا الدور من المفترض أن يظهر فى مجال الفنون التطبيقية والتصميم، بهدف التأثير الإستاطيقى على المستخدم من خلال وجهه نظر ذاتية.
3.2) مفهوم العلامة الفنية عند إنجاردن:
وفى ذلك نرى „إنجاردن“ واضعاً فروقاً بين „الحقيقة الأولية المحسوسة“ والتى وصفها „بالأتونومية“ Autonomous التى لا تحتاج الى “تعريف نوعى مضاف” (أنظر ص 6 من البحث) ، وبين مايجب أن يصل إلية المتلقى „كحقيقة كلية مُتخيلية“ Gestalt، والمرادفة إلى الأوتونومية الكبرى، المتمثلة فى حقيقة العلامة المستقلة عند موكاروفسكى (أنظر شكل 3).
فالأوتونومية الأولى تحيل إلى فردية شىء إستاطيقى بسيط وآولى (مثل كم الأيقونات الثقافية)، أما الأوتونومية الثانية نجدها رامزة إلى الإطار الكلى للوعى الجماعى بما فيه من معايير أخلاقية وديتية وأقتصادية وسياسية، والتى من الممكن رصدها من خلال نوعية الدلالات المصاحبة الإيحائية connotation والدلالات الإصطلاحية denotation ، والذى لا يخلو عمل فنى منهما.